فصل: مناسبة الآية لما قبلها:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.تفسير الآيات (12- 21):

قوله تعالى: {إِنَّ عَلَيْنَا للهدى (12) وَإِنَّ لَنَا لَلْآخِرَةَ والأولى (13) فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تلظى (14) لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الأشقى (15) الَّذِي كَذَّبَ وتولى (16) وَسَيُجَنَّبُهَا الأتقى (17) الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يتزكى (18) وَمَا لِأحد عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تجزى (19) إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأعلى (20) وَلَسَوْفَ يرضى (21)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما كان ربما قال المتعنت الجاهل بما له سبحانه وتعالى من العظمة التي لا اعتراض لأحد عليها: ما له لا ييسر الكل للحسنى، استأنف جوابه مبيناً من ألزم به نفسه من المصالح تفضلاً منه بما له من اللطف والكرم وما يفعله مما هو له من غير نظر إلى ذلك بما له من الجبروت والكبر، فقال مؤكداً تنبيهاً على أنه يحب العلم بأنه لا حق لأحد عليه أصلاً: {إن علينا} أي على ما لنا من العظمة {للهدى} أي البيان للطريق الحق وإقامة الأدلة الواضحة على ذلك.
ولما بين ما ألزمه نفسه المقدس فصار كأنه عليه لتحتم وقوعه فكان ربما أوهم أنه يلزمه شيء، أتبعه ما ينفيه ويفيد أن له غاية التصرف فلا يعسر عليه شيء أراده فقال: {وإن لنا} أي يا أيها المنكرون خاصاً بنا، وقدم ما العناية به أشد لأجل إنكارهم لا للفاصلة، فإنه يفيدها مثلاً أن يقال: للعاجلة والأخرى، فقال: {للآخرة والأولى} فمن ترك ما بينا له من طريق الهداية لم يخرج عن كونه لنا ولم يضر إلا نفسه ولنا التصرف التام، بما نقيم من الأسباب المقربة للشيء جدًّا، ثم بما نقيم من الموانع الموجبة لبعده غاية البعد، فنعطي من نشاء ما نشاء ونمنع من نشاء ما نشاء، ومن طلب منهما شيئاً من غيرنا فال رأيه وخاب سعيه، وليس التقديم لأجل الفاصلة، فقد ثبت بطلان هذا وأنه لا يحل اعتقاده في غير موضع، منها آخر سورة براءة، وأنه لا فرق بين أن يعتقد أن فيه شيئاً موزوناً بقصد الوزن فقط ليكون شعراً، وأن يعتقد أن فيه شيئاً قدم أو أخر لأجل الفاصلة فقط ليكون سجعاً، على أنه لو كان هذا لأجل الفاصلة فقط لكان يمكن أن يقال: للأولى- أو للأولة- والأخرى مثلاً.
ولما أخبر سبحانه وتعالى أنه ألزم نفسه المقدس البيان، وأن له كل شيء، المستلزم لإحاطة العلم وشمول القدرة، شرح ذلك بما سبب عنه من قوله لافتاً القول إلى تجريد الضمير من مظهر العظمة للترقق بالمخاطبين في تبعيد الوهم وتقريب الفهم فقال: {فأنذرتكم} أي حذرتكم أيها المخالفون للطريق الذي بينته {ناراً تلظى} أي تتقد وتتلهب تلهباً هو في غاية الشدة من غير كلفة فيه على موقدها أصلاً ولا أحد من خزنتها- بما أشار إليه إسقاط التاء، وفي الإدغام أيضاً إشارة إلى أن أدنى نار الآخرة كذلك، فيصير إنذار ما يتلظى وما فوق ذلك من باب الأولى.
ولما كان قد تقدم غير مرة تخصيص كل من المحسن والمسيء بداره بطريق الحصر إنكاراً لأن يسوى محسن بمسيء في شيء، وكان الحصر بـ: (لا) و(إلا) أصرح أنواعه قال: {لا يصلاها} أي يقاسي حرها وشدتها على طريق اللزوم والانغماس {إلا الأشقى} أي الذي هو في الذروة من الشقاوة وهو الكافر، فإن الفاسق وإن دخلها لا يكون ذلك له على طريق اللزوم، ولذلك وصفه بقوله تعالى: {الذي كذب} أي أفسد قوته العلمية بأن أعرض عن الحق تكبراً وعناداً فلم يؤت ماله لزكاة نفسه {وسيجنبها} أي النار الموصوفة بوعد لا خلف فيه عن قرب- بما أفهمته السين من التأكيد مع التنفيس، وتجنيبه له في غاية السهولة- بما أفهمه البناء للمفعول {الأتقى} أي الذي أسس قوته العلمية أمكن تأسيس، فكان في الذروة من رتبة التقوى وهو الذي اتقى الشرك والمعاصي، وهو يفهم أن من لم يكن في الذروة لا يكون كذلك، فإن الفاسق يدخلها ثم يخرج منها، ولا ينافي الحصر السابق.
ولما ذكر ما يتعلق بالقوة العلمية، أتبعه ما ينظر إلى القوة العملية فقال: {الذي يؤتي ماله} أي يصرفه في مصارف الخير، ولذلك بينه بقوله تعالى: {يتزكى} أي يتطهر من الأوضار والأدناس بتطهيره لنفسه وتنميتها بذلك الإيتاء بالبعد عن مساوي الأخلاق ولزوم محاسنها لأنه ما كذب وما تولى، والآية من الاحتباك: ذكر التكذيب أولاً دليلاً على حذف ضده ثانياً، وإيتاء المال ثانياً دليلاً على حذف ضده أولاً.
ولما كان الإنسان قد يعطي ليزكي نفسه بدفع مانّه ومكافأة نعمه قال: {وما} أي والحال أنه ما {لأحد عنده} وأعرق في النفي فقال: {من نعمة تجزى} أي هي مما يحق جزاؤه لأجلها.
ولما نفى أن يكون بذلك قصد مكافأة، قال مبيناً قصده باستثناء منقطع: {إلا} أي لكن قصد بذلك {ابتغاء} أي طلب وقصد، ولفت القول إلى صفة الإحسان إشارة إلى وصفه بالشكر فقال: {وجه ربه} الذي أوجده ورباه وأحسن إليه بحيث إنه لم ير إحساناً إلا منه ولا عنده شيء إلا وهو من فضله {الأعلى} أي مطلقاً فهو أعلى من كل شيء، فلا يمكن أن يعطي أحد من نفسه شيئاً يقع مكافأة له، وعبر عن المنقطع بأداة المتصل للإشارة إلى أن الابتغاء المذكور كأنه نعمة ممن آتاه المال لأن الابتغاء- وهو تطلب رضا الله- كان السبب في ذلك الإيتاء بغاية الترغيب، وقد آل الأمر بهذه العبارة الرشيقة والإشارة الأنيقة مع ما أومأت إليه من الترغيب، وأعطته من التحبيب إلى أن المعنى: إنه لا نعمى عليه لأحد في ذلك إلا الله، وعبر بالوجه إشارة إلى أن قصده أعلى القصود فلا نظر له إلا إلى ذاته سبحانه وتعالى التي عبر عنها بالوجه لأنه أشرف الذات، وبالنظر إليه تحصل الحياة والرغبة والرهبة، لا إلى طلب شيء من دنيا ولا آخرة.
ولما كان هذا مقاماً ليس فوقه مقام، قال تعالى بعد وعده من الإنجاء من النار: {ولسوف يرضى} أي بإعطاء الجنة العليا والمزيد بوعد لا خلف فيه بعد المذلة في الحياة الطيبة- بما أشارت إليه أداة التنفيس ولا بدع أن يكون هذا الوعد على هذا الوجه الأعلى لأن الآية نزلت في أبي بكر الصديق رضى الله عنه حين اشترى بلالاً رضى الله عنه في جماعة من الضعفاء المسلمين يؤذيهم المشركون فأعتقهم، فبين تعالى أنه مطبوع على تزكية نفسه فهو المفلح كما ذكر في سورة الشمس، وأنه مخلص لإعطائه الضعفاء من الأيتام والمساكين وإعتاقه الضعفاء في كل حال كما ذكر في سورة البلد، نقل البغوي رضي الله تعالى عنه عن الزبير يعني ابن بكار أنه قال: كان أبو بكر رضى الله عنه يبتاع الضعفاء فيعتقهم فقال له أبوه: أي بني! لو كنت تبتاع من يمنع ظهرك، قال: منع ظهري أريد.
وقال: إنه أعتق بلالاً وأم عميس وزهرة فأصيب بصرها حين أعتقها، فقالت قريش: ما أذهب بصرها إلا اللات والعزى، فقالت: كذبوا وبيت الله، ما تضر اللات والعزى ولا تنفعان، فرد الله عليها بصرها، وأعتق النهدية وابنتها وجارية بني المؤمل.
وقال: إنه اشترى بلالاً من أمية بن خلف استنق إذا له مما كان فيه من العذاب حين كان يشد يديه ورجليه وقت الهاجرة ويلقيه عرياناً على الرمضاء ويضربه، وكلما ضربه صاح ونادى: أحد أحد، فيزيده ضرباً فاشتراه بعبد كان لأبي بكر- رضى الله عنه ـ، كان ذلك العبد صاحب عشرة الآف دينار وغلمان وجوار ومواش وكان مشركاً، فلما اشتراه به وأعتقه قال المشركون: ما فعل هذا ببلال إلا ليد كانت لبلال عنده، يعني فأنزل الله ذلك تكذيباً لهم.
ومن أبدع الأشياء تعقيبها بالضحى التي هي في النبي- صلى الله عليه وسلم وفيها {ولسوف يعطيك ربك فترضى} [الضحى: 5] إشارة إلى أنه أقرب أمته إلى مقامه- صلى الله عليه وسلم ما عدا عيسى- صلى الله عليه وسلم لأنه الأتقى بعد النبيين مطلقاً، وإلى أن خلافته حق لا مرية فيه لأنه مما وعد النبي- صلى الله عليه وسلم أنه يرضيه وأنه لا يرضيه غيره كما أنه أرضاه خلافته له في الصلاة ولم يرضه غيره حين نهى عن ذلك بل زجر لما سمع قراءة غيره وقال: «يأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر رضى الله عنه» وقد رجع آخرها على أولها بأن سعي هذا الصديق رضى الله عنه مباين أتم مباينة سعي ذلك الأشقى، وقال بعضهم: إن المراد بذلك الأشقى أبو جهل، وأيضاً فإن هذا الختم دال على أن من صفى نفسه وزكاها بالتجلي بالنور المعنوي من إنارة ظلام الليل بما يجليه به من ضياء القيام وغير ذلك من أنواع الخير يرضى بالنور الحسي بعد الموت- والله الموفق للصواب. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

{إِنَّ عَلَيْنَا للهدى (12)}
فاعلم أنه تعالى لما عرفهم أن سعيهم شتى في العواقب وبين ما للمحسن من اليسرى وللمسيء من العسرى، أخبرهم أنه قد قضى ما عليه من البيان والدلالة والترغيب والترهيب والإرشاد والهداية فقال: {إِنَّ عَلَيْنَا للهدى} أي إن الذي يجب علينا في الحكمة إذا خلقنا الخلق للعبادة أن نبين لهم وجوه التعبد وشرح ما يكون المتعبد به مطيعاً مما يكون به عاصياً، إذ كنا إنما خلقناهم لننفعهم ونرحمهم ونعرضهم للنعيم المقيم، فقد فعلنا ما كان فعله واجباً علينا في الحكمة، والمعتزل احتجوا بهذه الآية على صحة مذهبهم في مسائل:
إحداها: أنه تعالى أباح الأعذار وما كلف المكلف إلا ما في وسعه وطاقته، فثبت أنه تعالى لا يكلف بما لا يطاق.
وثانيها: أن كلمة على للوجوب، فتدل على أنه قد يجب للعبد على الله شيء.
وثالثها: أنه لو لم يكن العبد مستقلاً بالإيجاد لما كان في وضع الدلائل فائدة، وأجوبة أصحابنا عن مثل هذه الوجوه مشهورة، وذكر الواحدي وجهاً آخر نقله عن الفراء فقال المعنى: إن علينا للهدى والإضلال، فترك الإضلال كما قال: {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الحر} [النحل: 81] وهي تقي الحر والبرد، وهذا معنى قول ابن عباس في رواية عطاء، قال: يريد أرشد أوليائي إلى العمل بطاعتي، وأحول بين أعدائي أن يعملوا بطاعتي فذكر معنى الإضلال، قالت المعتزلة: هذا التأويل ساقط لقوله تعالى: {وَعَلَى الله قَصْدُ السبيل وَمِنْهَا جَائِرٌ} [النحل: 9] فبين أن قصد السبيل على الله، وأما جور السبيل فبين أنه ليس على الله ولا منه، واعلم أن الاستقصاء قد سبق في تلك الآية.
أما قوله تعالى: {وَإِنَّ لَنَا لَلْآخِرَةَ والأولى (13)}
ففيه وجهان:
الأول: أن لنا كل ما في الدنيا والآخرة فليس يضرنا ترككم الاهتداء بهدانا، ولا يزيد في ملكنا اهتداؤكم، بل نفع ذلك وضره عائدان عليكم ولو شئنا لمنعناكم من المعاصي قهراً، إذ لنا الدنيا والآخرة ولكننا لا نمنعكم من هذا الوجه، لأن هذا الوجه يخل بالتكليف، بل نمنعكم بالبيان والتعريف، والوعد والوعيد.
الثاني: أن لنا ملك الدارين نعطي ما نشاء من نشاء، فيطلب سعادة الدارين منا، والأول أوفق لقول المعتزلة، والثاني أوفق لقولنا.
أما قوله تعالى: {فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تلظى (14)}
تلظى أي تتوقد وتتلهب وتتوهج، يقال: تلظت النار تلظياً، ومنه سميت جهنم لظى، ثم بين أنها لمن هي بقوله: {لاَ يصلاها إِلاَّ الأشقى} قال ابن عباس: نزلت في أمية بن خلف وأمثاله الذين كذبوا محمداً والأنبياء قبله، وقيل: إن الأشقى بمعنى الشقي كما يقال: لست فيها بأوحد أي بواحد، فالمعنى لا يدخلها إلا الكافر الذي هو شقي لأنه كذب بآيات الله، وتولى أي أعرض عن طاعة الله.
واعلم أن المرجئة يتمسكون بهذه الآية في أنه لا وعيد إلا على الكفار، قال القاضي: ولا يمكن إجراء هذه الآية على ظاهرها، ويدل على ذلك ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه يقتضي أن لا يدخل النار إلا الأشقى الذي كذب وتولى فوجب في الكافر الذي لم يكذب ولم يتول أن لا يدخل النار.
وثانيها: أن هذا إغراء بالمعاصي، لأنه بمنزلة أن يقول الله تعالى: لمن صدق بالله ورسوله ولم يكذب ولم يتول: أي معصية أقدمت عليها، فلن تضرك، وهذا يتجاوز حد الإغراء إلى أن تصير كالإباحة، وتعالى الله عن ذلك.
وثالثها: أن قوله تعالى: من بعد {وَسَيُجَنَّبُهَا الأتقى} [الليل: 17] يدل على ترك هذا الظاهر لأنه معلوم من حال الفاسق، أنه ليس بأتقى، لأن ذلك مبالغة في التقوى، ومن يرتكب عظائم الكبائر لا يوصف بأنه أتقى، فإن كان الأول يدل على أن الفاسق لا يدخل النار، فهذا الثاني يدل على أن الفاسق لا يجنب النار، وكل مكلف لا يجنب النار، فلابد وأن يكون من أهلها، ولما ثبت أنه لابد من التأويل، فنقول: فيه وجهان:
الأول: أن يكون المراد بقوله: {نَاراً تلظى} ناراً مخصوصة من النيران، لأنها دركات لقوله تعالى: {إِنَّ المنافقين في الدرك الأسفل مِنَ النار} [النساء: 145] فالآية تدل على أن تلك النار المخصوصة لا يصلاها سوى هذا الأشقى، ولا تدل على أن الفاسق وغير من هذا صفته من الكفار لا يدخل سائر النيران.
الثاني: أن المراد بقوله: {نَاراً تلظى} النيران أجمع، ويكون المراد بقوله: {لاَ يصلاها إِلاَّ الأشقى} أي هذا الأشقى به أحق، وثبوت هذه الزيادة في الاستحقاق غير حاصل إلا لهذا الأشقى.
واعلم أن وجوه القاضي ضعيفة.
أما قوله أولاً: يلزم في غير هذا الكافر أن لا يدخل النار فجوابه: أن كل كافر لابد وأن يكون مكذباً للنبي في دعواه، ويكون متولياً عن النظر في دلالة صدق ذلك النبي، فيصدق عليه أنه أشقى من سائر العصاة، وأنه كذب وتولى وإذا كان كل كافر داخلاً في الآية سقط ما قاله القاضي.
وأما قوله ثانياً: إن هذا إغراء بالمعصية فضعيف أيضاً، لأنه يكفي في الزجر عن المعصية حصول الذم في العاجل وحصول غضب الله بمعنى أنه لا يكرمه ولا يعظمه ولا يعطيه الثواب، ولعله يعذبه بطريق آخر، فلم يدل دليل على انحصار طريق التعذيب في إدخال النار.
وأما قوله ثالثاً: {وَسَيُجَنَّبُهَا الأتقى} فهذا لا يدل على حال غير الأتقى إلا على سبيل المفهوم، والتمسك بدليل الخطاب وهو ينكر ذلك فكيف تمسك به؟ والذي يؤكد هذا أن هذا يقتضي فيمن ليس بأتقى دخول النار، فيلزم في الصبيان والمجانين أن يدخلوا النار وذلك باطل.
وأما قوله رابعاً: المراد منه نار مخصوصة، وهي النار التي تتلظى فضعيف أيضاً، لأن قوله: {نَاراً تلظى} يحتمل أن يكون ذلك صفة لكل النيران، وأن يكون صفة لنار مخصوصة، لكنه تعالى وصف كل نار جهنم بهذا الوصف في آية أخرى، فقال: {كَلاَّ إِنَّهَا لظى نَزَّاعَةً للشوى} [المعارج: 15].
وأما قوله: المراد إن هذا الأشقى أحق به فضعيف لأنه ترك للظاهر من غير دليل، فثبت ضعف الوجوه التي ذكرها القاضي،.
فإن قيل: فما الجواب عنه على قولكم، فإنكم لا تقطعون بعدم وعيد الفساق؟
الجواب من وجهين:
الأول: ما ذكره الواحدي وهو أن معنى: {لاَ يصلاها} لا يلزمها في حقيقة اللغة، يقال: صلى الكافر النار إذا لزمها مقاسياً شدتها وحرها، وعندنا أن هذه الملازمة لا تثبت إلا للكافر، أما الفاسق فإما أن لا يدخلها أو إن دخلها تخلص منها.
الثاني: أن يخص عموم هذا الظاهر بالآيات الدالة على وعيد الفساق، والله أعلم.
قوله تعالى: {وَسَيُجَنَّبُهَا الأتقى (17) الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يتزكى (18)}
معنى سيجنبها أي سيبعدها ويجعل منها على جانب يقال: جنبته الشيء أي بعدته وجنبته عنه.
وفيه مسألتان:
المسألة الأولى:
أجمع المفسرون منا على أن المراد منه أبو بكر رضي الله تعالى عنه.
واعلم أن الشيعة بأسرهم ينكرون هذه الرواية، ويقولون: إنها نزلت في حق على بن أبي طالب عليه السلام والدليل عليه قوله تعالى: {وَيُؤْتُونَ الزكواة وَهُمْ رَاكِعُونَ} [المائدة: 55] فقوله: {الأتقى الذي يُؤْتِي مَالَهُ يتزكى} إشارة إلى ما في الآية من قوله: {يُؤْتُونَ الزكواة وَهُمْ رَاكِعُونَ} ولما ذكر ذلك بعضهم في محضري قلت: أقيم الدلالة العقلية على أن المراد من هذه الآية أبو بكر وتقريرها: أن المراد من هذا الأتقى هو أفضل الخلق، فإذا كان كذلك، وجب أن يكون المراد هو أبو بكر، فهاتان المقدمتان متى صحتا صح المقصود، إنما قلنا: إن المراد من هذا الأتقى أفضل الخلق لقوله تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ الله أتقاكم} [الحجرات: 13] والأكرم هو الأفضل، فدل على أن كل من كان أتقى وجب أن يكون أفضل.
فإن قيل: الآية دلت على أن كل من كان أكرم كان أتقى، وذلك لا يقتضي أن كل من كان أتقى كان أكرم، قلنا وصف كون الإنسان أتقى معلوم مشاهد، ووصف كونه أفضل غير معلوم ولا مشاهد، والإخبار عن المعلوم بغير المعلوم هو الطريق الحسن، أما عكسه فغير مفيد، فتقدير الآية كأنه وقعت الشبهة في أن الأكرم عند الله من هو؟ فقيل: هو الأتقى، وإذا كان كذلك كان التقدير أتقاكم أكرمكم عند الله، فثبت أن الأتقى المذكور هاهنا لابد وأن يكون أفضل الخلق عند الله، فنقول: لابد وأن يكون المراد به أبا بكر لأن الأمة مجمعة على أن أفضل الخلق بعد رسول الله، إما أبو بكر أو على، ولا يمكن حمل هذه الآية على على بن أبي طالب، فتعين حملها على أبي بكر، وإنما قلنا: إنه لا يمكن حملها على على بن أبي طالب لأنه قال في صفة هذا الأتقى: {وَمَا لأحد عِندَهُ مِن نّعْمَةٍ تجزى} وهذا الوصف لا يصدق على على بن أبي طالب، لأنه كان في تربية النبي صلى الله عليه وسلم لأنه أخذه من أبيه وكان يطعمه ويسقيه، ويكسوه، ويربيه، وكان الرسول منعماً عليه نعمة يجب جزاؤها، أما أبو بكر فلم يكن للنبي عليه الصلاة والسلام عليه دنيوية، بل أبو بكر كان ينفق على الرسول عليه السلام بل كان للرسول عليه السلام عليه نعمة الهداية والإرشاد إلى الدين، إلا أن هذا لا يجزى، لقوله تعالى: {مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ} [الفرقان: 57] والمذكور هاهنا ليس مطلق النعمة بل نعمة تجزى، فعلمنا أن هذه الآية لا تصلح لعلي بن أبي طالب، وإذا ثبت أن المراد بهذه الآية من كان أفضل الخلق وثبت أن ذلك الأفضل من الأمة، إما أبو بكر أو على، وثبت أن الآية غير صالحة لعلي، تعين حملها على أبي بكر رضي الله عنه، وثبت دلالة الآية أيضاً على أن أبا بكر أفضل الأمة، وأما الرواية فهي أنه كان بلال (عبداً) لعبد الله بن جدعان، فسلح على الأصنام فشكا إليه المشركون فعله، فوهبه لهم، ومائة من الإبل ينحرونها لآلهتهم، فأخذوه وجعلوا يعذبونه في الرمضاء وهو يقول: أحد، أحد، فمر به رسول الله، وقال: «ينجيك أحد، أحد».
ثم أخبر رسول الله أبا بكر أن بلالاً يعذب في الله: فحمل أبو بكر رطلاً من ذهب فابتاعه به، فقال المشركون: ما فعل ذلك أبو بكر إلا ليد كانت لبلال عنده، فنزل: {وَمَا لأحد عِندَهُ مِن نّعْمَةٍ تجزى إِلاَّ ابتغاء وَجْهِ رَبّهِ الأعلى} وقال ابن الزبير وهو على المنبر: كان أبو بكر يشتري الضعفة من العبيد فيعتقهم، فقال له أبوه: يا بني لو كنت تبتاع من يمنع ظهرك، فقال: منع ظهري أريد. فنزلت هذه الآية.
المسألة الثانية:
قال صاحب (الكشاف) في محل: {يتزكى} وجهان: إن جعلت بدلاً من يؤتي فلا محل له، لأنه داخل في حكم الصلة، والصلات لا محل لها.
وإن جعلته حالاً من الضمير في {يُؤْتِي} فمحله النصب.
{إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأعلى (20) وَلَسَوْفَ يرضى (21)} فيه مسائل:
المسألة الأولى:
{ابتغاء وَجْهِ رَبّهِ} مستثنى من غير جنسه وهو النعمة أي ما لأحد عنده نعمة إلا ابتغاء وجه ربه كقولك ما في الدار أحداً إلا حماراً، وذكر الفراء فيه وجهاً آخر وهو أن يضمر الإنفاق على تقدير: ما ينفق إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى، كقوله: {وَمَا تُنفِقُونَ إِلاَّ ابتغاء وَجْهِ الله} [البقرة: 272].
المسألة الثانية:
اعلم أنه تعالى بين أن هذا: الأتقى الذي يؤتي ماله يتزكى لا يؤتيه مكافأة على هدية أو نعمة سالفة، لأن ذلك يجري مجرى أداء الدين، فلا يكون له دخل في استحقاق مزيد الثواب بل إنما يستحق الثواب إذا فعله، لأجل أن الله أمره به وحثه عليه.
المسألة الثالثة:
المجسمة تمسكوا بلفظة الوجه والملحدة تمسكوا بلفظة {رَبّهِ الأعلى} وإن ذلك يقضي وجود رب آخر، وقد تقدم الكلام على كل ذلك.
المسألة الرابعة:
ذكر القاضي أبو بكر الباقلاني في كتاب (الإمامة)، فقال: الآية الواردة في حق على عليه السلام: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ الله لاَ نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلاَ شُكُوراً إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً} [الإنسان: 10 9] والآية الواردة في حق أبي بكر: {إِلاَّ ابتغاء وَجْهِ رَبّهِ الأعلى وَلَسَوْفَ يرضى} فدلت الآيتان على أن كل واحد منهما إنما فعل ما فعل لوجه الله إلا أن آية على تدل على أنه فعل ما فعل لوجه الله، وللخوف من يوم القيامة على ما قال: {إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً} وأما آية أبي بكر فإنها دلت على أنه فعل ما فعل لمحض وجه الله من غير أن يشوبه طمع فيما يرجع إلى رغبة في ثواب أو رهبة من عقاب، فكان مقام أبي بكر أعلى وأجل.
المسألة الخامسة:
من الناس من قال: ابتغاء الله بمعنى ابتغاء ذاته وهي محال، فلابد وأن يكون المراد ابتغاء ثوابه وكرامته، ومن الناس من قال: لا حاجة إلى هذا الإضمار، وحقيقة هذه المسألة راجعة إلى أنه هل يمكن أن يحب العبد ذات الله، أو المراد من هذه المحبة محبة ثوابه وكرامته، وقد تقدم الكلام في هذه المسألة في تفسير قوله: {والذين ءامَنُواْ أَشَدُّ حُبّا لِلَّهِ} [البقرة: 165].
المسألة السادسة:
قرأ يحيى بن وثاب: {إِلاَّ ابتغاء وَجْهِ رَبّهِ} بالرفع على لغة من يقول: ما في الدار أحد إلا حماراً وأنشد في اللغتين، قوله:
وبلدة ليس بها أنيس ** إلا اليعافير وإلا العيس

أما قوله: {وَلَسَوْفَ يرضى} فالمعنى أنه وعد أبا بكر أن يرضيه في الآخرة بثوابه، وهو كقوله لرسوله صلى الله عليه وسلم: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فترضى} [الضحى: 5] وفيه عندي وجه آخر، وهو أن المراد أنه ما أنفق إلا لطلب رضوان الله، ولسوف يرضى الله عنه، وهذا عندي أعظم من الأول لأن رضا الله عن عبده أكمل للعبد من رضاه عن ربه، وبالجملة فلابد من حصول الأمرين على ما قال: {رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً} [الفجر: 28] والله سبحانه وتعالى أعلم.
وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم. اهـ.